- youyou17
عدد الرسائل : 2077
العمر : 33
تاريخ التسجيل : 12/05/2009
الموضوعات في العلوم الفلكية
الأربعاء 07 أكتوبر 2009, 21:54
الموضوعات في العلوم الفلكية
فائز فوق العادة
أين تقع الموضوعات من الفلك والعلوم الكونية؟ وما تلك الموضوعات؟ يقوم
الفلك والعلوم الكونية الأخرى على قاعدة من الموضوعات، مثل العلوم غير
الكونية، كالرياضيات والفيزياء والبيولوجيا وغيرها، لهذا لن أتطرق إلى
تعداد موضوعات الفلك والعلوم الكونية، كما تعدد موضوعات فرع من فروع
الرياضيات في مستهله، إلا أنني سأحاول تصنيف موضوعات الفلك والعلوم
الكونية حسب طبيعة الفكرة التي هي قيد البحث، إلى ثلاثة أصناف من
الموضوعات:
1- الموضوعات التجريبية:
تتميز التجربة في الفلك والعلوم الكونية
بكونها تجربة منفعلة، أما التجربة في العلوم الأخرى فهي تجربة فاعلة،
وأقول في معظم العلوم لأن التجربة في بعض العلوم كعلم الحياة مثلاً ضرب من
المفارقة أكثر منها نوعاً من أنواع التجربة، إذ كي ندرس آليات الحياة لا
بد لنا أولاً أن نزيل صفة الحياة من الموضوع المدروس، أعني بالتجربة
المنفعلة عدم إمكان تكرار تجربة معينة بشكل منظم وعن قصد، بينما يمكن
بالتجربة الفاعلة أن نكرر العمل ما شئنا، حتى نصل إلى النتائج المتوخاة،
أما في نظاق الفلك والعلوم الكونية فيستحيل أن نفجر نجماً أو نحرك مذنباً،
أو نعيد الأحداث إلى الوراء لاستطلاع ماذا جرى خلال التاريخ المبكر
للمجموعة الشمسية، إن علينا أن ننتظر انفجار النجم وإن كان هذا الانتظار
ليس بالقصير من حيث المبدأ، وقد يمتد لسنين طويلة، كما يتوجب أن نستنتج
وبشكل غير مباشر المراحل المبكرة من حياة المجموعة الشمسية، ومن هنا فإن
كون التجربة منفعلة لا يقتصر على عدم إمكان تكرارها وفق ما نشاء، بل
يتعداه إلى استحالة إجراء التجربة أصلاً ضمن ظروف معينة، وهكذا فعلينا أن
نقبل بالنظرية التجريبية للفلك والعلوم الكونية، تلك التي تعيد صياغة
مفهوم التجربة في شكل غير مألوف، فبعد أن كانت التجربة تنطوي على تهيئة
وإعداد منظمين من قبل المجرب إذا بها تنقلب إلى استعراض مزاجي الطابع، إن
جاز لنا التعبير من قبل موضوع التجربة، أمام المجرب الذي يقبع إزاء موضوع
التجربة دون أن يقدر على تحريك ساكن. لا تشكل هذه الحقيقة انتقاصاً من قدر
الفلك والعلوم الكونية، فمن الموجهة النظرية المحضة، إن ما نكرره في إطار
التجارب الفاعلة ليس تكراراً على وجه الدقة، وإنما هو تقريب، وبدرجة
مقبولة من تجربة سابقة، فكل فعل محدث يختلف عما سبقه حتى لو كان نسخة عنه،
إذ إن الفعل المتأخر يجري في إطار ظروف مختلفة مهما كان اختلاف تلك الظروف
ضئيلاً.
2- الموضوعات النظرية:
تتركز المعرفة العلمية على بناء النماذج،
وتتراوح أنواع النماذج بدءاً من الانعكاسات المباشرة للعالم في أذهاننا،
حتى المعادلات المعقدة التي نصوغها لتفسير العلاقات المتبادلة بين أجزاء
ذلك العالم، لقد قادتنا عزلتنا الأرضية إلى كشف عدد من القوى والمؤثرات
الطبيعية الفاعلة في نطاق الأحداث الطبيعية على كوكبنا الأرض وفي الفضاء
المجاور القريب، والسؤال الآن: هل نستطيع تشكيل نماذج للأجسام والأحداث
الكونية البعيدة؟ وما الأدوات التي يمكننا استخدامها في عمليات التشكيل
تلك؟ تتدخل الموضوعة النظرية للفلك والعلوم الكونية هنا لتؤكد أن الكون
بأسره تسيره الآليات ذاتها، فما نكتشفه من قوى ومؤثرات في مكان وزمان
معينين، هي القوى والمؤثرات الفاعلة نفسها في أمكنة وأزمنة أخرى، وإن كانت
هناك فيزياء مجهولة فليس لأنها تعمل في أصقاع كونية أخرى بل لأنها موجودة
هنا ولم نكتشفها، وإذا تم اكتشافها عقب ارتحال إلى أعماق الكون فسيقترن
اكتشافها باكتشاف آخر هو أن تلك الفيزياء كانت موجودة هنا وأن شيئاً ما
حال بيننا وبين معرفتها في وقت أسبق، إن غياب الفكرة النظرية ضمن القالب
الذي بيناه سيقيد أية محاولة نبذلها لمعرفة الكون، بل سيعزلنا عن الكون،
وسيخفي العلاقة العميقة القائمة بيننا كممثلين رئيسيين للوعي وبين الكون
الفيزيائي.
3- الموضوعات الفلسفية:
إن هذه الموضوعات هي الترجمة المعاصرة
لفكرة وحدة الوجود، وتنص هذه الفكرة على أن المعرفة بحد ذاتها هي الوعي،
أي وعي الكون لذاته، ممثلاً في كائن متقدم الذكاء كالإنسان، ومن هذه
المقدمة نصل إلى القلب من النظرية الفلسفية، التي تتركز حول فكرة استحالة
تحقق المعرفة بدون الصلة الفيزيائية مع الكون، وأن في هذه الصلة نوعاً من
الجبرية، فالكون سينفتح حتماً أمام الوعي الوليد، والوعي بدوره سيراقب
الكون ويكتشف نظمه ويحيط به، هل يمكن أن نتصور حياة واعية متقدمة على كوكب
الزهرة القريب من أرضنا؟ طبعاً لا، ليس لأن المسابر الفضائية لم تكتشف مثل
تلك الحياة، بل لأن السحابة الكثيفة المحيطة بكامل الكوكب وبشكل دائم تحجب
الكون عن أنظار أي كائن على سطح ذلك الكوكب، وهو بذلك لن يكتشف الكون ولن
يعرفه، ضمن ما قصدناه من معنى سيكون كائناً غير واع، وستتبين صحة وجهة
النظر هذه فيما يلي من مناقشتنا. نعيد صياغة الفكرة الفلسفية بقولنا: إن
الكون هو أساس المعرفة، تتأيد فكرتنا هذه من خلال الأفكار التالية:
لقد لعب الكون وبشكل مباشر وغير مباشر
الدور الرئيسي في تكوين البنى المعرفية، يمكن أن نقول إن الذكاء الإنساني
قد قدح بفعل كوني منذ البداية، إن وجهات النظر الحديثة في ميكافعلا الكم
تصور أية جملة نظم جزيئية من العالم، أو حتى العالم نفسه في صورة حالة
معينة، من أصل عدد محدد وممكن من الحالات، يضيف هذا العلم أن الانتقال من
حالة إلى حالة أخرى يتم بقفزة يحددها احتمال معين، تدعى القفزة الكمومية
أو القفزة الكوانتية، ولكي أقرب مفهوم القفزة في ميكافعلا الكم أهبط
قليلاً إلى عالم الذرة، حيث تستبدل عدد هذه المدارات أو الغيمات بشكل
مسبق، ولا يستطيع الإلكترون في أثناء وجوده في الذرة إلا أن يوجد في إحدى
هذه الغيمات، أما إذا غادر الإلكترون أحد المدارات أو الغيمات فإنه لا
يسلك أي طريق جهة مدار أو غيمة أخرى، ذلك لأن ميكافعلا الكم تمنع الوجود
الظاهراتي للإلكترون إلا في إحدى الغيمات حصراً، إن قفزة الإلكترون هذه
قفزة كوانتية، وتتم بفقدان الإلكترون لكمية من الطاقة حيث يهبط إلى مدار
أو غيمة أدنى، أو كسبه لكمية من الطاقة حيث يرتفع إلى مدار أو غيمة أعلى.
ما صلة هذه الطريقة بالتفكير مع تحليلنا؟
لا بد من استطراد آخر قبل أن نجمع كل أفكارنا في صورة واحدة، نعود إلى
الاستطراد من جديد، ومرة أخرى إلى الأثر الفيزيائي المباشر للكون على
الأرض، لقد أثبتت رحلات الفضاء أن القصف النيزكي لسطح الأرض كان أمراً
متواتراً ومستمراً عبر تاريخها، إلا أن الغلاف الجوي يمحو آثار ذلك القصف،
وكذلك شأن الإشعاعات التي تصل سطح الأرض مع انفجارات النجوم، التي أتينا
على ذكرها، لقد كان لكل من هذين الفعلين أثر كبير في تغيير منهج الحياة
على الأرض، وكان الأثر إما منفصلاً من أحد الفعلين أو متناسقاً مع كليهما،
ولنضرب مثلاً على ذلك انقراض الديناصورات، فبعد أن عاثت هذه الزواحف
الرهيبة فساداً على الأرض لأكثر من مئة مليون عام، حيث كانت الثدييات
تختبئ هرباً من شرها، اختفت بشكل مفاجئ، وخلال عدة آلاف من السنين فقط،
كانت النظرية القديمة تقول إن الغذاء لم يعد يكفي الديناصورات، ولكن كيف
كان يكفيها لعدة عشرات من ملايين السنين، إن هذه النظرية بالفعل ضعيفة،
أما النظرية الحديثة فتقول إن نيزكاً هائلاً اصطدم بالأرض، وإن الغبار
الناجم عن الاصطدام ارتفع حتى أعالي الغلاف الجوي، فحجب نور الشمس عن
الأرض، ودخلت الأرض بالتالي في عصر جليدي مما سبب انقراض الديناصورات،
وبرز دليل جديد لهذه النظرية، يربط انقراض الديناصورات بانفجارات النجوم
وما تخلفه من طاقات عالية، ويضع هذه البديل النجم المنفجر على مقربة من
شمسنا، بحيث لا يزيد بعده عن ثلاثين سنة ضوئية، المهم أن تلك الطاقات
العالية أحدثت قفزات كمية في الجزيئات المكونة للديناصورات مما أساء للبنى
البيولوجية الإجمالية لها ولمورثاتها، إذ لم تكن البنى والمورثات مؤهلة
لتحمل تلك القفزات، فبدأت الديناصورات بالانقراض تدريجياً، وكان هذا الفعل
كارثياً، إذ يجب علينا أن نفهم الكارثة كما يفهمها العلم الحديث، فأية
قفزة مفاجئة هي كارثة، تماماً كالقفزة الكوانتية سواء أكانت نتائجها جيدة
أم سيئة، وكما تحتم ميكافعلا الكم على أن كل جملة لا بد وبشكل قطعي أن
توجد في حالة معينة من أصل عدد محدد من الحالات تماماً كوجود الإلكترون في
أحد مداراته حول النواة، إن الحديث عن وجوده في حالة معينة هو الحديث
الاحتمالي، فإن احتمال قفزة كوانتية سابقة لدى الكائن الإنساني قد يكون
على الشكل التالي: نتصور الكرة الأرضية في أحقاب سابقة، يعيش عليها أجداد
الإنسان، وهي كائنات غير منتصبة القامة، لا ترى السماء إلا نادراً وعلى
مقربة من الشمس يتفجر أحد النجوم فتنهمر الطاقات العالية على سطح الأرض،
وتمتص جزيئات تلك الكائنات هذه الطاقة، فتحدث فيها قفزات كوانتية تاركة
أثار إجمالية في بعضها، تتمخض عن حالة جديدة للمخ، ينتصب الكائن إثر ذلك
على قدميه، ويصبح بإمكانه أن يرى السماء، وبعدها يبدأ ذلك الكائن بمراقبة
الكون فيهيب بذلك القيمة والمعنى للكون، تؤيد وجهة النظر هذه أنه خلافاً
لنظرية داروين لم تولد أو تتطور أو تضمحل كل أعضاء الجسم نتيجة لتغيرات
الحاجة الوظيفية ولا أدل على ذلك من الفص الجبهي في مخ الإنسان.
لقد كانت تلك اللحظة تاريخية بكل معنى
الكلمة، إذ مرت الجملة المكونة من الكون والإنسان بالقفزة الكوانتية
المطلوبة، وبعدها بدأت الرحلة الطويلة لاستكمال الحالة الكوانتية الجديدة،
أي الحالة التي ستأخذ شكلها النهائي عندما يلتحم العقل الإنساني بالكون،
لا من خلال النماذج فقط، وإنما على الطبيعة أيضاً وهذا ما يفسر تسارع
توجهنا نحو الكون.
أما عن تدخل الكون غير المباشر في تنمية
عملية المعرفة، فأرى في التاريخ أقوى دليل عليه، لقد ساعدت جغرافية السماء
الشعوب القديمة على التنقل عبر الأرض، ومن المعلوم أن النجوم بعيدة جداً
وأن أقربها إلى شمسنا يبعد أكثر من أربع سنوات ضوئية، لذا لا تظهر الحركات
الحقيقية للنجوم لدى النظر إلى السماء، وتبدو تجمعات النجوم ثابتة في
السماء، ويعود النجم نفسه إلى الموقع نفسه من القبة السماوية وفي الوقت
نفسه بعد سنة من ظهوره الأول في المكان نفسه، وبشكل أدق إن حركة النجوم في
السماء وعلى مدى بعيد، ترتبط فقط بدوران الأرض حول نفسها ودورتها حول
الشمس، تستثنى من هذه القاعدة الكواكب السيارة، تنزاح تجمعات النجوم بسبب
حركة الأرض كل ليلة في القبة السماوية وقد لاحظ الأقدمون كل ذلك، ولكنهم
كانوا على جهل بالأسباب الحقيقية لهذه الظاهرة، إن الحركات الحقيقية
للنجوم لن تلاحظ في السماء إلا عبر عدة مئات من آلاف السنين، وهكذا وحتى
في هذا العصر نستطيع وبكثير من الاطمئنان عد النجوم كأنها مثبتة فعلاً لدى
دراستنا للفلك الموقعي، أي الفلك القائم على مواقع النجوم، قسم الأقدمون
هذه التجمعات الثابتة بما اتفق وأساطيرهم ورؤاهم المختلفة، وما يهم في
حديثنا أنهم استخدموا هذه الجغرافية السماوية للتنقل على سطح الأرض.
كان لأجدادنا العرب دوراً كبيراً في
تسمية الأجسام والأبراج السماوية، واستخدموا تقسيماتهم تلك، وبنجاح في
رحلاتهم وأسفارهم، لقد اضطرتهم بيئتهم الصحراوية لفعل ذلك، فالاتجاهات
تنعدم في الصحراء بعد مغيب الشمس ولا بد من الاستعانة بالسماء في أية حركة
مهما كانت بسيطة، كذلك طبقت الجغرافية السماوية للإبحار خلال العصور
الغابرة بل لازالت مستخدمة حتى الآن، أو لم يكن للكون ضمن هذه الرؤية
مساهمة كبيرة في تنمية المعرفة؟ بلى فالارتحال والتنقل كانا عماد تبادل
المعارف والأفكار، وبالاعتماد على النجوم وتجمعاتها كانت تخطط الأسفار
والرحلات، وهكذا لولا تجلي الكون لما تطورت المعارف على الرغم من أن
المعرفة الحقيقية للكون لم تكن قد تحققت كما هي اليوم.
لقد وجهنا الكون في حبونا المعرفي، ألم
يكن ساحر القبيلة يقرأ الطالع من خلال النجوم ليتنبأ بالمصائر والأحداث،
ما الذي دفعه لتبني نهج التوقع والتنبؤ؟ لأنه لاحظ تواتر بعض الأحداث
الكونية وتكرارها كسقوط النيازك والشهب، بل ربما انفجارات النجوم البعيدة،
وهكذا قلد الساحر الدورية في الأحداث الكونية بنموذج عقلي، بناه بعفوية
وانطوى هذا النموذج على إمكانية تكرار أحداث وقعت سابقاً، وفي هذا العصر
نتنبأ أيضاً باستخدام القوانين والمعطيات العلمية بما قد يحدث، ولكنه تنبؤ
على كل حال مشتق من آليات التكرار والعود الكونية.
وإذا كان الكون قد قدم لنا آلية التكرار
والعود الأبديين، كان علينا نحن بني البشر مهمة ترجمة هذه الآلية
واختزالها إلى صيغة عقلية مختصرة هي علاقة السبب بالنتيجة، وبعد نجاح هذا
الإنجاز الهائل تواترت العطاءات الكونية متمثلة بكشف مستمر للحجب الكونية
أمام ناظري الإنسان وتصاعدت الكشوف العلمية ومعها تراكمت معرفتنا عن
العالم.
إننا نطبق قانون الجذب الثقالي في كل
دقيقة من دقائق حياتنا دون أن ننتبه لذلك، فكيف وضعنا يدنا على ذلك
القانون الأساسي؟ مرة أخرى الكون، وإليكم القصة باختصار: قام الفلكي
الدانمركي تيخو براهي ببناء مقراب على جزيرة بالقرب من كوبنهاغن أسماه
قلعة السماء، وقد نفذ أرصاداً بالغة الدقة بالعين المجردة، ووضع على
أساسها خارطة للسماء وما فيها من نجوم وكواكب، لاحظ براهي أن النجوم لا
تبدي أي اختلاف زاوي في المنظر بسبب حركة الأرض، فاستنتج أنها بعيدة جداً
بالمقارنة مع القمر والكواكب السيارة التي لاحظ أنها تعاني من انزياح معين
في تلك الحالة، لقد كانت خارطة براهي بالغة الدقة خاصة فيما يتعلق بمسارات
الكواكب السيارة عبر القبة السماوية إلا أن نموذجه المستنتج من تلك
الخارطة لم يكن صحيحاً، إذ تصور أن الأرض ساكنة وفي موقع مركزي، ولشدة
العجب وضع الكواكب الأخرى في أمكنتها الفعلية بالنسبة للشمس، انضم إليه في
علمه عندما انتقل إلى براغ في أواخر حياته شاب يدعى يوهانس كبلر، وعند موت
براهي عام 1601 ورث كبلر جداوله الثمينة وباشر بتحليلها بعمق، كان يؤمن
بالتنجيم وتصور من خلال إيمانه هذا أن نواظم أساسية تصف حركة الكواكب حول
الشمس الواقعة في المركز دون أن تفسر تلك الحركة بشكل فيزيائي محدد، أما
القوانين الثلاثة فهي:
· يدور كل كوكب في مسار إهليلجي (قطع ناقص) تقع الشمس في إحدى محرقيه.
· يمسح المستقيم الواصل بين الشمس وكل كوكب مساحات متساوية من الفضاء خلال أزمنة متساوية.
· إن نسبة مكعب نصف القطر الكبير للقطع
الناقص المذكور إلى مربع المدة التي تلزم كي ينجز الكوكب دورة واحدة حول
الشمس، هي نسبة ثابتة لكل الكواكب ويعرف هذا القانون باسم قانون التناغم.
كانت قوانين كبلر تجريبية الطابع، فقد
استقرأها من خلال أرصاد تيخو براهي، إلا أن المراجعة العميقة لها وإعادة
صياغة النظرية أتت على يد نيوتن الذي درس بعمق تلك القوانين، واستنتج منها
قانونه النظري والأساسي الشهير في الجذب الثقالي الذي ينص على أن أي جسمين
في الكون ومهما كانت طبيعتهما يتبادلان فعل الجذب الثقالي بقوة تتناسب مع
كتلتيهما ومع مقلوب مربع المسافة بينهما.
نلاحظ الآن دور الكون مرة أخرى في هذا
الإنجاز العظيم، فتيخو براهي يقرأ في صفحات الكون وكبلر يستوحي النواظم
التجريبية وأخيراً يغوص نيوتن إلى الآلية العميقة.
إن دور الكون لا ينتهي عند هذا الحد على
الإطلاق، فلا معرفة بدون الكون، وفيما يلي مثال آخر من التاريخ: لقد انتشر
الإشعاع في الكون وساد منذ الانفجار الأول الكبير، الذي أتى بالكون إلى
الوجود ووصل إلى كل بقعة بسرعة انتشار الإشعاع التي هي سرعة الضوء، وتواتر
تشكل النجوم وموتها بعد تكون المجرات، وكما سبق وأشرنا، فإن موت بعض
النجوم يقترن بانفجار مأساوي هائل، لازالت أعداد هائلة من النجوم تولد
بشكل مستمر وأعداد هائلة أخرى تموت بشكل مستمر، وهذا الإشعاع يمسح كرتنا
الأرضية على الدوام فيما يعرف باسم الأشعة الكونية.
نعرف جميعاً أن الصواعق والبروق تحدث عند
تجمع شحنات كهربائية كبيرة في السحب، وعندما يصبح فرق الكمون عالياً بدرجة
كافية، تقفز الشرارات الكهربائية الهائلة بين السحب وسحب أخرى، أو بين
السحب والأرض، ولكن من أين أتت أصلاً تلك الشحنات الكهربائية؟ لقد بقي هذا
التساؤل قائماً لفترة طويلة من الزمن، ومؤخراً طرحت نظرية جديدة تربط نشوء
تلك الشحنات بالأشعة الكونية.
عندما ترتطم الأشعة الكونية العالية
الطاقة بجزيئين متعاكسين في الشحنة أحدهما بشحنة سالبة ويعرف بالشاردة
السالبة، والآخر بشحنة موجبة ويعرف بالشاردة الموجبة، تتكون نتيجة التشرد
أعداد كبيرة من الجزيئات الكهربائية الساكنة، تغمر هذه الكهربائية الساكنة
الهواء من حولنا بشكل كامل في الأيام الصحوة، تفضل الشوارد السالبة كما
يبدو الأرض، بينما تندفع الشوارد الموجبة عالياً في الهواء، ينجم عن وجود
هذه الشحنات فرق كمون كهربائي يصل حتى 200 فولت بين رأس كل منا وقدميه إلا
أن فرق الكمون هذا ليس قاتلاً، فالطاقة فيه قليلة لأن الكهربائية ساكنة.
تلتصق الشحنات السالبة بسبب فعل كيميائي
هو الادمصاص، بأي سطح وعلى العكس من ذلك لا تتحد الشحنات الموجبة بالسهولة
نفسها، لذا فهي تندفع عالياً مع التيارات الهوائية الصاعدة، وما يجري عند
تجمع السحب هو أن الشحنات الموجبة هذه تتخللها بينما ترتبط الشحنات
السالبة بقطرات الماء في الجزء السفلي من السحب، يتعاظم فرق الكمون
الكهربائي بين باطن السحابة الهائلة الناجمة عنه متمثلة بوميض البرق
المعروف أو تنفجر الصواعق، وقد تصل الصاعقة سطح الأرض بفعل الانفراغ
الكهربائي بين السحابة وسطح الأرض.
لقد لاحظ الإنسان تلك الظواهر منذ أقدم
العصور، وحاول بعض المجربين التقاط الشحنات الكهربائية، وكان من بينهم
بنيامين فرانكلين الذي نجح في ذلك باستخدام الطائرات الورقية التي كانت
ترتفع فتمكن الشحنات المنفرغة من عبور أسلاكها حتى الأرض، وبعد ذلك ارتاد
البحاثة مجال تلك الظواهر فكان منهم فراداي وكولومب وأمبير وغيرهم، وتوج
مكسويل في القرن التاسع عشر أعمال من سبقه بصياغة المعادلات الشهيرة التي
تحم الأفعال الباطنية للحقل الكهرطيسي.
نلاحظ تقابلاً واضحاً مع قصة اكتشاف
الجذب الثقالي، فبدءاً من التدخل الكوني للفت نظر الإنسان إلى الظاهرة،
ومروراً بالمجرب الذي يستجيب للفت النظر ذلك، فيسجل الأحوال المختلفة لتلك
الظاهرة ثم الباحث أو البحاثة الذين يذهبون أبعد في محاولة الإحاطة
بالظاهرة، وأخيراً المنظر الكبير الذي يضع النموذج المحكم لعمل الظاهرة.
اليوم تتكرر القصة ذاتها، فنظرية أو
بالأحرى نظريات القوى الكونية التي تسعى لاختزال القوى الكونية ضمن صيغة
موحدة تبدأ بالكون وترى في الكون الملاذ الأخير للبحث عما يؤكدها.
ننهي حديثنا عن الفكرة الفلسفية عند هذا
الحد مؤكدين أن ما قلناه في هذا السياق ليس كل ما يقال، إذ إن هناك الكثير
مما يؤيد محتوى تلك الفكرة وحسبنا أننا حاولنا طرح الفكرة وتأييدها بما
سقنا من أمثلة ويستطيع القارئ أن يذهب أبعد من ذلك إلى حيث يشاء في عمليتي
التأمل والتحليل.
فائز فوق العادة
أين تقع الموضوعات من الفلك والعلوم الكونية؟ وما تلك الموضوعات؟ يقوم
الفلك والعلوم الكونية الأخرى على قاعدة من الموضوعات، مثل العلوم غير
الكونية، كالرياضيات والفيزياء والبيولوجيا وغيرها، لهذا لن أتطرق إلى
تعداد موضوعات الفلك والعلوم الكونية، كما تعدد موضوعات فرع من فروع
الرياضيات في مستهله، إلا أنني سأحاول تصنيف موضوعات الفلك والعلوم
الكونية حسب طبيعة الفكرة التي هي قيد البحث، إلى ثلاثة أصناف من
الموضوعات:
1- الموضوعات التجريبية:
تتميز التجربة في الفلك والعلوم الكونية
بكونها تجربة منفعلة، أما التجربة في العلوم الأخرى فهي تجربة فاعلة،
وأقول في معظم العلوم لأن التجربة في بعض العلوم كعلم الحياة مثلاً ضرب من
المفارقة أكثر منها نوعاً من أنواع التجربة، إذ كي ندرس آليات الحياة لا
بد لنا أولاً أن نزيل صفة الحياة من الموضوع المدروس، أعني بالتجربة
المنفعلة عدم إمكان تكرار تجربة معينة بشكل منظم وعن قصد، بينما يمكن
بالتجربة الفاعلة أن نكرر العمل ما شئنا، حتى نصل إلى النتائج المتوخاة،
أما في نظاق الفلك والعلوم الكونية فيستحيل أن نفجر نجماً أو نحرك مذنباً،
أو نعيد الأحداث إلى الوراء لاستطلاع ماذا جرى خلال التاريخ المبكر
للمجموعة الشمسية، إن علينا أن ننتظر انفجار النجم وإن كان هذا الانتظار
ليس بالقصير من حيث المبدأ، وقد يمتد لسنين طويلة، كما يتوجب أن نستنتج
وبشكل غير مباشر المراحل المبكرة من حياة المجموعة الشمسية، ومن هنا فإن
كون التجربة منفعلة لا يقتصر على عدم إمكان تكرارها وفق ما نشاء، بل
يتعداه إلى استحالة إجراء التجربة أصلاً ضمن ظروف معينة، وهكذا فعلينا أن
نقبل بالنظرية التجريبية للفلك والعلوم الكونية، تلك التي تعيد صياغة
مفهوم التجربة في شكل غير مألوف، فبعد أن كانت التجربة تنطوي على تهيئة
وإعداد منظمين من قبل المجرب إذا بها تنقلب إلى استعراض مزاجي الطابع، إن
جاز لنا التعبير من قبل موضوع التجربة، أمام المجرب الذي يقبع إزاء موضوع
التجربة دون أن يقدر على تحريك ساكن. لا تشكل هذه الحقيقة انتقاصاً من قدر
الفلك والعلوم الكونية، فمن الموجهة النظرية المحضة، إن ما نكرره في إطار
التجارب الفاعلة ليس تكراراً على وجه الدقة، وإنما هو تقريب، وبدرجة
مقبولة من تجربة سابقة، فكل فعل محدث يختلف عما سبقه حتى لو كان نسخة عنه،
إذ إن الفعل المتأخر يجري في إطار ظروف مختلفة مهما كان اختلاف تلك الظروف
ضئيلاً.
2- الموضوعات النظرية:
تتركز المعرفة العلمية على بناء النماذج،
وتتراوح أنواع النماذج بدءاً من الانعكاسات المباشرة للعالم في أذهاننا،
حتى المعادلات المعقدة التي نصوغها لتفسير العلاقات المتبادلة بين أجزاء
ذلك العالم، لقد قادتنا عزلتنا الأرضية إلى كشف عدد من القوى والمؤثرات
الطبيعية الفاعلة في نطاق الأحداث الطبيعية على كوكبنا الأرض وفي الفضاء
المجاور القريب، والسؤال الآن: هل نستطيع تشكيل نماذج للأجسام والأحداث
الكونية البعيدة؟ وما الأدوات التي يمكننا استخدامها في عمليات التشكيل
تلك؟ تتدخل الموضوعة النظرية للفلك والعلوم الكونية هنا لتؤكد أن الكون
بأسره تسيره الآليات ذاتها، فما نكتشفه من قوى ومؤثرات في مكان وزمان
معينين، هي القوى والمؤثرات الفاعلة نفسها في أمكنة وأزمنة أخرى، وإن كانت
هناك فيزياء مجهولة فليس لأنها تعمل في أصقاع كونية أخرى بل لأنها موجودة
هنا ولم نكتشفها، وإذا تم اكتشافها عقب ارتحال إلى أعماق الكون فسيقترن
اكتشافها باكتشاف آخر هو أن تلك الفيزياء كانت موجودة هنا وأن شيئاً ما
حال بيننا وبين معرفتها في وقت أسبق، إن غياب الفكرة النظرية ضمن القالب
الذي بيناه سيقيد أية محاولة نبذلها لمعرفة الكون، بل سيعزلنا عن الكون،
وسيخفي العلاقة العميقة القائمة بيننا كممثلين رئيسيين للوعي وبين الكون
الفيزيائي.
3- الموضوعات الفلسفية:
إن هذه الموضوعات هي الترجمة المعاصرة
لفكرة وحدة الوجود، وتنص هذه الفكرة على أن المعرفة بحد ذاتها هي الوعي،
أي وعي الكون لذاته، ممثلاً في كائن متقدم الذكاء كالإنسان، ومن هذه
المقدمة نصل إلى القلب من النظرية الفلسفية، التي تتركز حول فكرة استحالة
تحقق المعرفة بدون الصلة الفيزيائية مع الكون، وأن في هذه الصلة نوعاً من
الجبرية، فالكون سينفتح حتماً أمام الوعي الوليد، والوعي بدوره سيراقب
الكون ويكتشف نظمه ويحيط به، هل يمكن أن نتصور حياة واعية متقدمة على كوكب
الزهرة القريب من أرضنا؟ طبعاً لا، ليس لأن المسابر الفضائية لم تكتشف مثل
تلك الحياة، بل لأن السحابة الكثيفة المحيطة بكامل الكوكب وبشكل دائم تحجب
الكون عن أنظار أي كائن على سطح ذلك الكوكب، وهو بذلك لن يكتشف الكون ولن
يعرفه، ضمن ما قصدناه من معنى سيكون كائناً غير واع، وستتبين صحة وجهة
النظر هذه فيما يلي من مناقشتنا. نعيد صياغة الفكرة الفلسفية بقولنا: إن
الكون هو أساس المعرفة، تتأيد فكرتنا هذه من خلال الأفكار التالية:
لقد لعب الكون وبشكل مباشر وغير مباشر
الدور الرئيسي في تكوين البنى المعرفية، يمكن أن نقول إن الذكاء الإنساني
قد قدح بفعل كوني منذ البداية، إن وجهات النظر الحديثة في ميكافعلا الكم
تصور أية جملة نظم جزيئية من العالم، أو حتى العالم نفسه في صورة حالة
معينة، من أصل عدد محدد وممكن من الحالات، يضيف هذا العلم أن الانتقال من
حالة إلى حالة أخرى يتم بقفزة يحددها احتمال معين، تدعى القفزة الكمومية
أو القفزة الكوانتية، ولكي أقرب مفهوم القفزة في ميكافعلا الكم أهبط
قليلاً إلى عالم الذرة، حيث تستبدل عدد هذه المدارات أو الغيمات بشكل
مسبق، ولا يستطيع الإلكترون في أثناء وجوده في الذرة إلا أن يوجد في إحدى
هذه الغيمات، أما إذا غادر الإلكترون أحد المدارات أو الغيمات فإنه لا
يسلك أي طريق جهة مدار أو غيمة أخرى، ذلك لأن ميكافعلا الكم تمنع الوجود
الظاهراتي للإلكترون إلا في إحدى الغيمات حصراً، إن قفزة الإلكترون هذه
قفزة كوانتية، وتتم بفقدان الإلكترون لكمية من الطاقة حيث يهبط إلى مدار
أو غيمة أدنى، أو كسبه لكمية من الطاقة حيث يرتفع إلى مدار أو غيمة أعلى.
ما صلة هذه الطريقة بالتفكير مع تحليلنا؟
لا بد من استطراد آخر قبل أن نجمع كل أفكارنا في صورة واحدة، نعود إلى
الاستطراد من جديد، ومرة أخرى إلى الأثر الفيزيائي المباشر للكون على
الأرض، لقد أثبتت رحلات الفضاء أن القصف النيزكي لسطح الأرض كان أمراً
متواتراً ومستمراً عبر تاريخها، إلا أن الغلاف الجوي يمحو آثار ذلك القصف،
وكذلك شأن الإشعاعات التي تصل سطح الأرض مع انفجارات النجوم، التي أتينا
على ذكرها، لقد كان لكل من هذين الفعلين أثر كبير في تغيير منهج الحياة
على الأرض، وكان الأثر إما منفصلاً من أحد الفعلين أو متناسقاً مع كليهما،
ولنضرب مثلاً على ذلك انقراض الديناصورات، فبعد أن عاثت هذه الزواحف
الرهيبة فساداً على الأرض لأكثر من مئة مليون عام، حيث كانت الثدييات
تختبئ هرباً من شرها، اختفت بشكل مفاجئ، وخلال عدة آلاف من السنين فقط،
كانت النظرية القديمة تقول إن الغذاء لم يعد يكفي الديناصورات، ولكن كيف
كان يكفيها لعدة عشرات من ملايين السنين، إن هذه النظرية بالفعل ضعيفة،
أما النظرية الحديثة فتقول إن نيزكاً هائلاً اصطدم بالأرض، وإن الغبار
الناجم عن الاصطدام ارتفع حتى أعالي الغلاف الجوي، فحجب نور الشمس عن
الأرض، ودخلت الأرض بالتالي في عصر جليدي مما سبب انقراض الديناصورات،
وبرز دليل جديد لهذه النظرية، يربط انقراض الديناصورات بانفجارات النجوم
وما تخلفه من طاقات عالية، ويضع هذه البديل النجم المنفجر على مقربة من
شمسنا، بحيث لا يزيد بعده عن ثلاثين سنة ضوئية، المهم أن تلك الطاقات
العالية أحدثت قفزات كمية في الجزيئات المكونة للديناصورات مما أساء للبنى
البيولوجية الإجمالية لها ولمورثاتها، إذ لم تكن البنى والمورثات مؤهلة
لتحمل تلك القفزات، فبدأت الديناصورات بالانقراض تدريجياً، وكان هذا الفعل
كارثياً، إذ يجب علينا أن نفهم الكارثة كما يفهمها العلم الحديث، فأية
قفزة مفاجئة هي كارثة، تماماً كالقفزة الكوانتية سواء أكانت نتائجها جيدة
أم سيئة، وكما تحتم ميكافعلا الكم على أن كل جملة لا بد وبشكل قطعي أن
توجد في حالة معينة من أصل عدد محدد من الحالات تماماً كوجود الإلكترون في
أحد مداراته حول النواة، إن الحديث عن وجوده في حالة معينة هو الحديث
الاحتمالي، فإن احتمال قفزة كوانتية سابقة لدى الكائن الإنساني قد يكون
على الشكل التالي: نتصور الكرة الأرضية في أحقاب سابقة، يعيش عليها أجداد
الإنسان، وهي كائنات غير منتصبة القامة، لا ترى السماء إلا نادراً وعلى
مقربة من الشمس يتفجر أحد النجوم فتنهمر الطاقات العالية على سطح الأرض،
وتمتص جزيئات تلك الكائنات هذه الطاقة، فتحدث فيها قفزات كوانتية تاركة
أثار إجمالية في بعضها، تتمخض عن حالة جديدة للمخ، ينتصب الكائن إثر ذلك
على قدميه، ويصبح بإمكانه أن يرى السماء، وبعدها يبدأ ذلك الكائن بمراقبة
الكون فيهيب بذلك القيمة والمعنى للكون، تؤيد وجهة النظر هذه أنه خلافاً
لنظرية داروين لم تولد أو تتطور أو تضمحل كل أعضاء الجسم نتيجة لتغيرات
الحاجة الوظيفية ولا أدل على ذلك من الفص الجبهي في مخ الإنسان.
لقد كانت تلك اللحظة تاريخية بكل معنى
الكلمة، إذ مرت الجملة المكونة من الكون والإنسان بالقفزة الكوانتية
المطلوبة، وبعدها بدأت الرحلة الطويلة لاستكمال الحالة الكوانتية الجديدة،
أي الحالة التي ستأخذ شكلها النهائي عندما يلتحم العقل الإنساني بالكون،
لا من خلال النماذج فقط، وإنما على الطبيعة أيضاً وهذا ما يفسر تسارع
توجهنا نحو الكون.
أما عن تدخل الكون غير المباشر في تنمية
عملية المعرفة، فأرى في التاريخ أقوى دليل عليه، لقد ساعدت جغرافية السماء
الشعوب القديمة على التنقل عبر الأرض، ومن المعلوم أن النجوم بعيدة جداً
وأن أقربها إلى شمسنا يبعد أكثر من أربع سنوات ضوئية، لذا لا تظهر الحركات
الحقيقية للنجوم لدى النظر إلى السماء، وتبدو تجمعات النجوم ثابتة في
السماء، ويعود النجم نفسه إلى الموقع نفسه من القبة السماوية وفي الوقت
نفسه بعد سنة من ظهوره الأول في المكان نفسه، وبشكل أدق إن حركة النجوم في
السماء وعلى مدى بعيد، ترتبط فقط بدوران الأرض حول نفسها ودورتها حول
الشمس، تستثنى من هذه القاعدة الكواكب السيارة، تنزاح تجمعات النجوم بسبب
حركة الأرض كل ليلة في القبة السماوية وقد لاحظ الأقدمون كل ذلك، ولكنهم
كانوا على جهل بالأسباب الحقيقية لهذه الظاهرة، إن الحركات الحقيقية
للنجوم لن تلاحظ في السماء إلا عبر عدة مئات من آلاف السنين، وهكذا وحتى
في هذا العصر نستطيع وبكثير من الاطمئنان عد النجوم كأنها مثبتة فعلاً لدى
دراستنا للفلك الموقعي، أي الفلك القائم على مواقع النجوم، قسم الأقدمون
هذه التجمعات الثابتة بما اتفق وأساطيرهم ورؤاهم المختلفة، وما يهم في
حديثنا أنهم استخدموا هذه الجغرافية السماوية للتنقل على سطح الأرض.
كان لأجدادنا العرب دوراً كبيراً في
تسمية الأجسام والأبراج السماوية، واستخدموا تقسيماتهم تلك، وبنجاح في
رحلاتهم وأسفارهم، لقد اضطرتهم بيئتهم الصحراوية لفعل ذلك، فالاتجاهات
تنعدم في الصحراء بعد مغيب الشمس ولا بد من الاستعانة بالسماء في أية حركة
مهما كانت بسيطة، كذلك طبقت الجغرافية السماوية للإبحار خلال العصور
الغابرة بل لازالت مستخدمة حتى الآن، أو لم يكن للكون ضمن هذه الرؤية
مساهمة كبيرة في تنمية المعرفة؟ بلى فالارتحال والتنقل كانا عماد تبادل
المعارف والأفكار، وبالاعتماد على النجوم وتجمعاتها كانت تخطط الأسفار
والرحلات، وهكذا لولا تجلي الكون لما تطورت المعارف على الرغم من أن
المعرفة الحقيقية للكون لم تكن قد تحققت كما هي اليوم.
لقد وجهنا الكون في حبونا المعرفي، ألم
يكن ساحر القبيلة يقرأ الطالع من خلال النجوم ليتنبأ بالمصائر والأحداث،
ما الذي دفعه لتبني نهج التوقع والتنبؤ؟ لأنه لاحظ تواتر بعض الأحداث
الكونية وتكرارها كسقوط النيازك والشهب، بل ربما انفجارات النجوم البعيدة،
وهكذا قلد الساحر الدورية في الأحداث الكونية بنموذج عقلي، بناه بعفوية
وانطوى هذا النموذج على إمكانية تكرار أحداث وقعت سابقاً، وفي هذا العصر
نتنبأ أيضاً باستخدام القوانين والمعطيات العلمية بما قد يحدث، ولكنه تنبؤ
على كل حال مشتق من آليات التكرار والعود الكونية.
وإذا كان الكون قد قدم لنا آلية التكرار
والعود الأبديين، كان علينا نحن بني البشر مهمة ترجمة هذه الآلية
واختزالها إلى صيغة عقلية مختصرة هي علاقة السبب بالنتيجة، وبعد نجاح هذا
الإنجاز الهائل تواترت العطاءات الكونية متمثلة بكشف مستمر للحجب الكونية
أمام ناظري الإنسان وتصاعدت الكشوف العلمية ومعها تراكمت معرفتنا عن
العالم.
إننا نطبق قانون الجذب الثقالي في كل
دقيقة من دقائق حياتنا دون أن ننتبه لذلك، فكيف وضعنا يدنا على ذلك
القانون الأساسي؟ مرة أخرى الكون، وإليكم القصة باختصار: قام الفلكي
الدانمركي تيخو براهي ببناء مقراب على جزيرة بالقرب من كوبنهاغن أسماه
قلعة السماء، وقد نفذ أرصاداً بالغة الدقة بالعين المجردة، ووضع على
أساسها خارطة للسماء وما فيها من نجوم وكواكب، لاحظ براهي أن النجوم لا
تبدي أي اختلاف زاوي في المنظر بسبب حركة الأرض، فاستنتج أنها بعيدة جداً
بالمقارنة مع القمر والكواكب السيارة التي لاحظ أنها تعاني من انزياح معين
في تلك الحالة، لقد كانت خارطة براهي بالغة الدقة خاصة فيما يتعلق بمسارات
الكواكب السيارة عبر القبة السماوية إلا أن نموذجه المستنتج من تلك
الخارطة لم يكن صحيحاً، إذ تصور أن الأرض ساكنة وفي موقع مركزي، ولشدة
العجب وضع الكواكب الأخرى في أمكنتها الفعلية بالنسبة للشمس، انضم إليه في
علمه عندما انتقل إلى براغ في أواخر حياته شاب يدعى يوهانس كبلر، وعند موت
براهي عام 1601 ورث كبلر جداوله الثمينة وباشر بتحليلها بعمق، كان يؤمن
بالتنجيم وتصور من خلال إيمانه هذا أن نواظم أساسية تصف حركة الكواكب حول
الشمس الواقعة في المركز دون أن تفسر تلك الحركة بشكل فيزيائي محدد، أما
القوانين الثلاثة فهي:
· يدور كل كوكب في مسار إهليلجي (قطع ناقص) تقع الشمس في إحدى محرقيه.
· يمسح المستقيم الواصل بين الشمس وكل كوكب مساحات متساوية من الفضاء خلال أزمنة متساوية.
· إن نسبة مكعب نصف القطر الكبير للقطع
الناقص المذكور إلى مربع المدة التي تلزم كي ينجز الكوكب دورة واحدة حول
الشمس، هي نسبة ثابتة لكل الكواكب ويعرف هذا القانون باسم قانون التناغم.
كانت قوانين كبلر تجريبية الطابع، فقد
استقرأها من خلال أرصاد تيخو براهي، إلا أن المراجعة العميقة لها وإعادة
صياغة النظرية أتت على يد نيوتن الذي درس بعمق تلك القوانين، واستنتج منها
قانونه النظري والأساسي الشهير في الجذب الثقالي الذي ينص على أن أي جسمين
في الكون ومهما كانت طبيعتهما يتبادلان فعل الجذب الثقالي بقوة تتناسب مع
كتلتيهما ومع مقلوب مربع المسافة بينهما.
نلاحظ الآن دور الكون مرة أخرى في هذا
الإنجاز العظيم، فتيخو براهي يقرأ في صفحات الكون وكبلر يستوحي النواظم
التجريبية وأخيراً يغوص نيوتن إلى الآلية العميقة.
إن دور الكون لا ينتهي عند هذا الحد على
الإطلاق، فلا معرفة بدون الكون، وفيما يلي مثال آخر من التاريخ: لقد انتشر
الإشعاع في الكون وساد منذ الانفجار الأول الكبير، الذي أتى بالكون إلى
الوجود ووصل إلى كل بقعة بسرعة انتشار الإشعاع التي هي سرعة الضوء، وتواتر
تشكل النجوم وموتها بعد تكون المجرات، وكما سبق وأشرنا، فإن موت بعض
النجوم يقترن بانفجار مأساوي هائل، لازالت أعداد هائلة من النجوم تولد
بشكل مستمر وأعداد هائلة أخرى تموت بشكل مستمر، وهذا الإشعاع يمسح كرتنا
الأرضية على الدوام فيما يعرف باسم الأشعة الكونية.
نعرف جميعاً أن الصواعق والبروق تحدث عند
تجمع شحنات كهربائية كبيرة في السحب، وعندما يصبح فرق الكمون عالياً بدرجة
كافية، تقفز الشرارات الكهربائية الهائلة بين السحب وسحب أخرى، أو بين
السحب والأرض، ولكن من أين أتت أصلاً تلك الشحنات الكهربائية؟ لقد بقي هذا
التساؤل قائماً لفترة طويلة من الزمن، ومؤخراً طرحت نظرية جديدة تربط نشوء
تلك الشحنات بالأشعة الكونية.
عندما ترتطم الأشعة الكونية العالية
الطاقة بجزيئين متعاكسين في الشحنة أحدهما بشحنة سالبة ويعرف بالشاردة
السالبة، والآخر بشحنة موجبة ويعرف بالشاردة الموجبة، تتكون نتيجة التشرد
أعداد كبيرة من الجزيئات الكهربائية الساكنة، تغمر هذه الكهربائية الساكنة
الهواء من حولنا بشكل كامل في الأيام الصحوة، تفضل الشوارد السالبة كما
يبدو الأرض، بينما تندفع الشوارد الموجبة عالياً في الهواء، ينجم عن وجود
هذه الشحنات فرق كمون كهربائي يصل حتى 200 فولت بين رأس كل منا وقدميه إلا
أن فرق الكمون هذا ليس قاتلاً، فالطاقة فيه قليلة لأن الكهربائية ساكنة.
تلتصق الشحنات السالبة بسبب فعل كيميائي
هو الادمصاص، بأي سطح وعلى العكس من ذلك لا تتحد الشحنات الموجبة بالسهولة
نفسها، لذا فهي تندفع عالياً مع التيارات الهوائية الصاعدة، وما يجري عند
تجمع السحب هو أن الشحنات الموجبة هذه تتخللها بينما ترتبط الشحنات
السالبة بقطرات الماء في الجزء السفلي من السحب، يتعاظم فرق الكمون
الكهربائي بين باطن السحابة الهائلة الناجمة عنه متمثلة بوميض البرق
المعروف أو تنفجر الصواعق، وقد تصل الصاعقة سطح الأرض بفعل الانفراغ
الكهربائي بين السحابة وسطح الأرض.
لقد لاحظ الإنسان تلك الظواهر منذ أقدم
العصور، وحاول بعض المجربين التقاط الشحنات الكهربائية، وكان من بينهم
بنيامين فرانكلين الذي نجح في ذلك باستخدام الطائرات الورقية التي كانت
ترتفع فتمكن الشحنات المنفرغة من عبور أسلاكها حتى الأرض، وبعد ذلك ارتاد
البحاثة مجال تلك الظواهر فكان منهم فراداي وكولومب وأمبير وغيرهم، وتوج
مكسويل في القرن التاسع عشر أعمال من سبقه بصياغة المعادلات الشهيرة التي
تحم الأفعال الباطنية للحقل الكهرطيسي.
نلاحظ تقابلاً واضحاً مع قصة اكتشاف
الجذب الثقالي، فبدءاً من التدخل الكوني للفت نظر الإنسان إلى الظاهرة،
ومروراً بالمجرب الذي يستجيب للفت النظر ذلك، فيسجل الأحوال المختلفة لتلك
الظاهرة ثم الباحث أو البحاثة الذين يذهبون أبعد في محاولة الإحاطة
بالظاهرة، وأخيراً المنظر الكبير الذي يضع النموذج المحكم لعمل الظاهرة.
اليوم تتكرر القصة ذاتها، فنظرية أو
بالأحرى نظريات القوى الكونية التي تسعى لاختزال القوى الكونية ضمن صيغة
موحدة تبدأ بالكون وترى في الكون الملاذ الأخير للبحث عما يؤكدها.
ننهي حديثنا عن الفكرة الفلسفية عند هذا
الحد مؤكدين أن ما قلناه في هذا السياق ليس كل ما يقال، إذ إن هناك الكثير
مما يؤيد محتوى تلك الفكرة وحسبنا أننا حاولنا طرح الفكرة وتأييدها بما
سقنا من أمثلة ويستطيع القارئ أن يذهب أبعد من ذلك إلى حيث يشاء في عمليتي
التأمل والتحليل.
- youyou17
عدد الرسائل : 2077
العمر : 33
تاريخ التسجيل : 12/05/2009
رد: الموضوعات في العلوم الفلكية
الأربعاء 14 أكتوبر 2009, 22:39
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى