- youyou17
عدد الرسائل : 2077
العمر : 33
تاريخ التسجيل : 12/05/2009
هلاك فرعون وجنوده
الإثنين 24 أغسطس 2009, 18:44
لما تمادى قبط مصر على كفرهم وعتوهم
وعنادهم ، متابعة لملكهم فرعون ، ومخالفة لنبي الله ورسوله وكليمه موسى بن
عمران عليه السلام ، أقام الله على أهل مصر الحجج العظيمة القاهرة ،
وأراهم من خوارق العادات ما بهر الأبصار وحير العقول ، وهم مع ذلك لا
يرعوون ولا ينتهون ، ولا ينزعون ولا يرجعون .
ولم يؤمن منهم إلا القليل . قيل ثلاثة : وهم إمرأة فرعون - ولا علم لأهل
الكتاب بخبرها - ومؤمن آل فرعون الذي تقدمت حكاية موعظته ومشورته وحجته
عليهم ، والرجل الناصح الذي جاء يسعى من أقصا المدينة ، فقال : " يا موسى
إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين " .
قاله ابن عباس فيما رواه ابن أبي حاتم عنه ومراده غير السحرة ، فإنهم كانوا من القبط .
وقيل بل آمن به طائفة من القبط من قوم فرعون ، والسحرة كلهم وجميع شعب بني
إسرائيل . ويدل على هذا قوله تعالى : " فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه
على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم وإن فرعون لعال في الأرض وإنه لمن
المسرفين " .
فالضمير في قوله : " إلا ذرية من قومه " عائد على فرعون لأن السياق يدل
عليه ، وقيل على موسى لقربه ، والأول أظهر كما هو مقرر في التفسير
وإيمانهم كان خفياً لمخالفتهم من فرعون وسطوته ، وجبروته وسلطته ، ومن
ملئهم أن ينموا عليهم إليه فيفتنهم عن دينهم .
قال الله تعالى مخبراً عن فرعون وكفى بالله شهيداً : " وإن فرعون لعال في
الأرض " أي جبار عنيد مشتغل بغير الحق ، " وإنه لمن المسرفين " أي في جميع
أموره وشئونه وأحواله ولكنه جرثومة قد حان انجعافها وثمرة خبيثة قد آن
قطافها ، ومنهجة ملعونة قد حتم إتلافها .
وعند ذلك قال موسى : " يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم
مسلمين * فقالوا على الله توكلنا ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين *
ونجنا برحمتك من القوم الكافرين " فأمرهم بالتوكل على الله والإستعانة به
، والإلتجاء إليه ، فأتمروا بذلك فجعل الله لهم مما كانوا فيه فرجاً
ومخرجاً .
" وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا واجعلوا بيوتكم قبلة وأقيموا الصلاة وبشر المؤمنين " .
أوحى الله تعالى إلى موسى وأخيه هارون عليهما السلام أن يتخذا لقومهما
بيوتاً مميزة فيها بينهم عن بيوت القبط ، ليكونوا على أهبة الرحيل إذا
أمروا به ، ليعرف بعضهم بيوت بعض .
وقوله : " واجعلوا بيوتكم قبلة " قيل مساجد ، وقيل معناه كثرة الصلاة فيها .
قال مجاهد وأبو مالك وإبراهيم النخعي والربيع والضحاك وزيد بن أسلم وابنه عبد الرحمن وغيرهم .
ومعناه على هذا : الإستعانة على ما هم فيه الضر والشدة والضيق بكثرة
الصلاة ، كما قال تعالى : " واستعينوا بالصبر والصلاة " وكان رسول الله
صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر صلي .
وقيل معناه : أنهم لم يكونوا حينئذ يقدرون على إظهار عبادتهم في مجتمعاتهم
ومعابدهم ، فأمروا أن يصلوا في بيوتهم ، عوضاً عما فاتهم من إظهار شعائر
الدين الحق في ذلك الزمان ، الذي اقتضى حالهم إخفاءه خوفاً من فرعون وملئه
، والمعنى الأول أقوى لقوله : " وبشر المؤمنين " وإن كان لا ينافي الثاني
أيضاً . . والله أعلم .
وقال سعيد بن جبير : " واجعلوا بيوتكم قبلة " أي متقابلة .
* * *
" وقال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا
ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا
حتى يروا العذاب الأليم * قال قد أجيبت دعوتكما فاستقيما ولا تتبعان سبيل
الذين لا يعلمون " .
هذه دعوة عظيمة دعا بها كليم الله موسى على عدو الله فرعون ، غضباً لله
عليه ، لتكبره عن اتباع الحق ، وصده عن سبيل الله ومعاندته وعتوه وتمرده ،
واستمراره على الباطل ، ومكابرته الحق الواضح الجلي الحسي والمعنوي ،
والبرهان القطعي ، فقال : " ربنا إنك آتيت فرعون وملأه " يعني قومه من
القبط ، ومن كان على ملته ودان بدينه " زينة وأموالا في الحياة الدنيا
ربنا ليضلوا عن سبيلك " أي وهذا يغتر به من يعظم أمر الدنيا . فيحسب
الجاهل أنهم على شيء ، لكن هذه الأموال وهذه الزينة ، من اللباس والمراكب
الحسنة الهنية ، والدور الأنيقة والقصور المبنية ، والمآكل الشهية
والمناظر البهية ، والملك العزيز والتمكين . والجاه العريض في الدنيا لا
الدين .
" ربنا اطمس على أموالهم " قال ابن عباس ومجاهد : أي أهلكها . وقال أبو
العالية والربيع بن أنس والضحاك : اجعلها حجارة منقوشة كهيئة ما كانت ،
وقال قتادة : بلغنا أن زروعهم صارت حجارة ، وقال محمد بن كعب : جعل سكرهم
حجارة ، وقال أيضاً : صارت أموالهم كلها حجارة ذكر ذلك لعمر بن عبد العزيز
، فقال عمر بن عبد العزيز لغلام له : قم ائتني بكيس ، فجاء بكيس ، فإذا
فيه حمص وبيض قد حول حجارة ! رواه ابن أبي حاتم .
وقوله : " واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم " قال ابن
عباس : أي اطبع عليها . وهذه دعوة غضب لله تعالى ولدينه ولبراهينه .
فاستجاب الله تعالى لها ، وحققها وتقبلها ، كما استجاب لنوح في قومه حيث
قال : " رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا * إنك إن تذرهم يضلوا
عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا " ولهذا قال تعالى مخاطباً لموسى حين دعا
على فرعون وملئه ، وأمن أخوه هارون على دعائه فنزل ذلك منزلة الداعي أيضاً
:" قال قد أجيبت دعوتكما فاستقيما ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون " .
قال المفسرون وغيرهم من أهل الكتاب : استأذن بنو إسرائيل فرعون في الخروج
إلى عيد لهم ، فأذن لهم وهو كاره ، ولكنهم تجهزوا للخروج وتأهبوا له ،
وإنما كان في نفس الأرض مكيدة بفرعون وجنوده ، ليتخلصوا منهم ويخرجوا عنهم
.
وأمرهم الله تعالى - فيما ذكره أهل الكتاب - أن يستعيروا حلياً منهم ،
فأعاروهم شيئاً كثيراً ، فخرجوا بليل فساروا مستمرين ذاهبين من فورهم ،
طالبين بلاد الشام ، فلما علم بذهابهم فرعون حنق عليهم كل الحنق ، واشتد
غضبه عليهم ، وشرع في استحثاث جيشه وجمع جنوده ليلحقهم ويمحقهم .
قال الله تعالى : " وأوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي إنكم متبعون * فأرسل
فرعون في المدائن حاشرين * إن هؤلاء لشرذمة قليلون * وإنهم لنا لغائظون *
وإنا لجميع حاذرون * فأخرجناهم من جنات وعيون * وكنوز ومقام كريم * كذلك
وأورثناها بني إسرائيل * فأتبعوهم مشرقين * فلما تراء الجمعان قال أصحاب
موسى إنا لمدركون * قال كلا إن معي ربي سيهدين * فأوحينا إلى موسى أن اضرب
بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم * وأزلفنا ثم الآخرين *
وأنجينا موسى ومن معه أجمعين * ثم أغرقنا الآخرين * إن في ذلك لآية وما
كان أكثرهم مؤمنين * وإن ربك لهو العزيز الرحيم " .
قال علماء التفسير : لما ركب فرعون في جنوده طالباً بني إسرائيل يقفو
أثرهم كان في جيش كثيف عرمرم ، حتى قيل كان في خيوله مائة ألف فحل أدهم ،
وكانت عدة جنود تزيد على ألف ألف وستمائة ألف ، فالله أعلم ، وقيل إن بني
إسرائيل كانوا نحواً من ستمائة ألف مقاتل غير الذرية . وكان بين خروجهم من
مصر صحبة موسى عليه السلام ودخولهم إليها صحبة أبيهم إسرائيل أربعمائة سنة
وستاً وعشرين سنة شمسية .
والمقصود أن فرعون لحقهم بالجنود ،فأدركهم عند شروق الشمس ، وتراءى
الجمعان ، ولم يبق ثم ريبولا لبس ، وعاين كل من الفريقين صاحبه وتحققه
ورآه ، ولم يبق إلا المقاتلة والمجادلة والمحاماة . فعندها قال أصحاب موسى
وهم خائفون : " إنا لمدركون " وذلك لأنهم اضطروا في طريقهم إلى البحر فليس
لهم طريق ولا محيد إلا سلوكه وخوضه ، وهذا ما لا يستطيعه أحد ولا يقدر
عليه ، والجبال عن يسرتهم وعن أيمانهم وهي شاهقة منيفة . وفرعون قد غالقهم
وواجههم ، وعاينوه في جنوده وجيوشه وعدده وعدده ، وهم منه في غاية الخوف
والذعر ، لما قاسوا في سلطانه من الإهانة والمكر .
فشكوا إلى نبي الله ما هم فيه مما قد شاهدوه وعاينوه . فقال لهم الرسول
الصادق المصدوق : " كلا إن معي ربي سيهدين " وكان في الساقة ، فتقدم إلى
المقدمة ، ونظر إلى البحر وهو يتلاطم بأمواجه ، ويتزايد زبد أجاجه ، وهو
يقول : هاهنا أمرت . ومعه أخوه هارون ، ويوشع بن نون ، وهو يومئذ من سادات
بني إسرائيل وعلمائهم وعبادهم الكبار ، وقد أوحي الله إليه وجعله نبياً
بعد موسى وهارون عليهما السلام ، كما سنذكره فيما بعد إن شاء الله ، ومعهم
أيضاً مؤمن آل فرعون ، وهم وقوف ، وبنو إسرائيل بكمالهم عليه عكوف . ويقال
إن مؤمن آل فرعون جعل يقتحم بفرسه مراراً في البحر ، هل يمكن سلوكه ؟ فلا
يمكن ، ويقول لموسى عليه السلام : يا نبي الله . . هاهنا أمرت ؟ فيقول :
نعم .
فلما تفاقم الأمر وضاق الحال واشتد الأمر ، واقترب فرعون وجنوده في جدهم
وحدهم وحديدهم ، وغضبهم وحنقهم ، وزاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر ،
عند ذلك أوحى الحليم العظيم القدير ، رب العرش الكريم ، إلى موسى الكليم :
" أن اضرب بعصاك البحر " فلما ضربه ، يقال إنه قال له : انفلق بإذن الله .
ويقال : إنه كناه بأبي خالد . . والله أعلم .
قال الله تعالى : " فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل
فرق كالطود العظيم " ويقال إنه انفلق اثني عشر طريقاً ، لكل سبط طريق
يسيرون فيه ، حتى قيل إنه صار فيه أيضاً شبابيك ليرى بعضهم بعضاً ! وفي
هذا نظر ، لأن الماء جرم شفاف إذا كان من ورائه ضياء حكاه .
وهكذا كان ماء البحر قائماً مثل الجبال ، مكفوفاً بالقدرة العظيمة الصادرة
من الذي يقول للشيء كن فيكون ، وأمر الله ريح الدبور فلفحت حال البحر
فأذهبته ، حتى صار يابساً لا يعلق في سنابك الخيول والدواب .
قال الله تعالى : " ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي فاضرب لهم طريقا
في البحر يبسا لا تخاف دركا ولا تخشى * فأتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من
اليم ما غشيهم * وأضل فرعون قومه وما هدى " .
والمقصود أنه لما آل أمر البحر إلى هذه الحال ، فبإذن الرب العظيم الشديد
المحال ، أمر موسى عليه السلام أن يجوزه ببني إسرائيل ، فانحدروا فيه
مسرعين مستبشرين مبادرين ، وقد شاهدوا من الأمر العظيم ما يحير الناظرين ،
ويهدي قلوب المؤمنين . فلما جاوزوه وجاوزوه وخرج آخرهم منه ، وانفصلوا عنه
، وكان ذلك عند قدوم أول جيش فرعون إليه ، ووفودهم عليه .
فأراد موسى عليه السلام أن يضرب البحر بعصاه ليرجع كما كان عليه . لئلا
يكون لفرعون وجنوده وصول إليه ، ولا سبيل عليه ، فأمره القدير ذو الجلال
أن يترك البحر على هذه الحال ، كما قال وهو الصادق في المقال : " ولقد
فتنا قبلهم قوم فرعون وجاءهم رسول كريم * أن أدوا إلي عباد الله إني لكم
رسول أمين * وأن لا تعلوا على الله إني آتيكم بسلطان مبين * وإني عذت بربي
وربكم أن ترجمون * وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون * فدعا ربه أن هؤلاء قوم
مجرمون * فأسر بعبادي ليلا إنكم متبعون * واترك البحر رهوا إنهم جند
مغرقون * كم تركوا من جنات وعيون * وزروع ومقام كريم * ونعمة كانوا فيها
فاكهين * كذلك وأورثناها قوما آخرين * فما بكت عليهم السماء والأرض وما
كانوا منظرين * ولقد نجينا بني إسرائيل من العذاب المهين * من فرعون إنه
كان عاليا من المسرفين * ولقد اخترناهم على علم على العالمين * وآتيناهم
من الآيات ما فيه بلاء مبين " .
فقوله تعالى : " واترك البحر رهوا " أي ساكناً على هيئته ، لا يغيره عن هذه الصفة .
قاله عبد الله بن عباس ومجاهد وعكرمة والربيع والضحاك وقتادة وكعب الأحبار وسماك بن حرب وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وغيرهم .
فلما تركه على هيئته وحالته وانتهى فرعون ، فرأى ما رأى ، وعاين ما عاين ،
هاله هذا المنظر العظيم ، وتحقق ما كان يتحققه قبل ذلك من أن هذا من فعل
رب العرش الكريم ، فأحجم ولم يتقدم ، وندم في نفسه على خروجه في طلبهم
والحالة هذه حيث لا ينفعه الندم ، لكنه أظهر لجنوده تجلداً وعاملهم معاملة
العدا ، وحملته النفس الكافرة والسجية الفاجرة على أن قال لمن استخفهم
فأطاعوه ، وعلى باطله تابعوه : انظروا كيف انحسر البحر لي لأدرك عبيدي
الآبقين من يدي ، الخارجين على طاعتي وبلدي ؟ وجعل يورى في نفسه أن يذهب
خلفهم ، ويرجو أن ينجو وهيهات ويقدم تارة ويحج تارات !
فذكروا أن جبريل عليه السلام تبدى في صورة فارس راكب على رمكة حائل فمر
بين يدي فحل فرعون لعنه الله ، فحمحم إليها وأقبل عليها ، وأسرع جبريل بين
يديه فاقتحم البحر ، واستبق الجواد وقد أجاد ، فبادر هذا وفرعون لا يملك
من نفسه ضراً ولا نفعاً ، فلما رأته الجنود قد سلك البحر اقتحموا وراءه
مسرعين ، فحصلوا في البحر أجمعين أكتعين أبصعين ، حتى هم أولهم بالخروج
منه ، فعند ذلك أمر الله تعالى كليمهه فيما أوحاه إليه أن يضرب بعصاه
البحر . فضربه فارتطم عليهم البحر كما كان ، فلم ينج منهم إنسان .
قال تعالى : " وأنجينا موسى ومن معه أجمعين * ثم أغرقنا الآخرين * إن في
ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين * وإن ربك لهو العزيز الرحيم " أي في
إنجائه أولياءه فلم يغرق منم أحد . وإغراقه أعداءه فلم يخلص منهم أحد ،
آيه عظيمة ، وبرهان قاطع على قدرته تعالى العظيمة ، وصدق رسوله فيما جاء
به عن ربه من الشريعة الكريمة ، ولمناهج المستقيمة .
وقال تعالى : " وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتبعهم فرعون وجنوده بغيا
وعدوا حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو
إسرائيل وأنا من المسلمين * آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين * فاليوم
ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون " .
يخبر تعالى عن كيفية غرق فرعون زعيم كفرة القبط ، وأنه لما جعلت الأمواج
تخفضه تارة وترفعه أخرى ، وبنو إسرائيل ينظرون إليه وإلى جنوده ، ماذا أحل
الله به وبهم من البأس العظيم والخطب الجسيم ، ليكون أقر لأعين بني
إسرائيل ، وأشفى لنفوسهم . فلما عاين فرعون الهلكة وأحيط به ، وباشر سكرات
الموت أناب حينئذ وتاب ، وآمن حين لا ينفع نفساً إيمانها ، كما قال تعالى
: " إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون * ولو جاءتهم كل آية حتى يروا
العذاب الأليم " .
وقال تعالى : " فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به
مشركين * فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في
عباده وخسر هنالك الكافرون " .
وهكذا دعا موسى على فرعون وملئه ، أن يطمس على أموالهم ، ويشدد على قلوبهم
فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم ، أي حين لا ينفعهم ذلك ، ويكون حسرة
عليهم . وقد قال تعالى لهما - أي لموسى وهارون - حين دعوا بهذا : " قد
أجيبت دعوتكما " فهذا من إجابة الله تعالى دعوة كليمه وأخيه هارون عليهما
السلام .
ومن ذلك الحديث الذي رواه الإمام أحمد : حدثنا سليمان بن حرب ، حدثنا حماد
بن سلمة ، عن علي بن زيد ، عن يوسف بن مهران ، عن ابن عباس قال : قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم : " لما قال فرعون " آمنت أنه لا إله إلا الذي
آمنت به بنو إسرائيل " قال لي جبريل : لو رأيتني وقد أخذت من حال البحر
فدسسته في فيه ، مخافة أن تناله الرحمة " !
ورواه الترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم عند هذه الآية من حديث حماد بن سلمة ، وقال الترمذي : حديث حسن .
وقال أبو داود الطيالسي : حدثنا شعبة عن عدي بن ثابت ، وعطاء بن السائب ،
عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" قال لي جبريل : لو رأيتني وأنا آخذ من حال البحر فأدسه في فم فرعون
مخافة أن تناله الرحمة " .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو خالد الأحمر ، عن
عمر بن عبد الله بن يعلى الثقفي . عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال :
لما أغرق الله فرعون أشار بأصبعه ورفع صوته : " آمنت أنه لا إله إلا الذي
آمنت به بنو إسرائيل " قال : فخاف جبريل أن تسبق رحمة الله فيه غضبه ،
فجعل يأخذ الحال بجناحيه ، فيضرب به وجهه فيرمسه . ورواه ابن جرير من حديث
أبي خالد به .
ورواه الترمذي وابن جرير من حديث شعبة ، وقال الترمذي : حسن غريب صحيح . وأشار ابن جرير في رواية إلى وقفه .
وقد رواه ابن جرير من طريق كثير بن زاذان وليس بمعروف ، وعن أبي حازم عن
أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قال لي جبريل عليه
السلام : يا محمد . . لو رأيتني وأنا أغطه وأدس من الحال في فيه ، مخافة
أن تدركه رحمة الله فيغفر له " يعنى فرعون .
وقد أرسله غير واحد من السلف كإبراهيم التيمي وقتادة وميمون بن مهران ،
ويقال إن الضحاك بن قيس خطب به الناس ، وفي بعض الروايات أن جبريل قال :
ما بغضت أحداً بغضي لفرعون حين قال : " أنا ربكم الأعلى " ولقد جعلت أدس
في فيه الطين حين قال ما قال .
وقوله تعالى : " آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين " استفهام إنكار ،
ونص على عدم قبوله تعالى منه ذلك ، لأنه - والله أعلم - لو رد إلى الدنيا
كما كان لعاد إلى ما كان عليه ، كما أخبر تعالى عن الكفار إذا عاينوا
النار وشاهدوها أنهم يقولون : " يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون
من المؤمنين " قال الله : " بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا
لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون " وقوله : " فاليوم ننجيك ببدنك لتكون
لمن خلفك آية " .
قال ابن عباس وغير واحد : شك بعض بني إسرائيل في موت فرعون ، حتى قال
بعضهم إنه لا يموت ، فأمر الله البحر فرفعه على مرتفع ، قيل على وجه الماء
، وقيل على نجوة من الأرض ، وعليه درعه التي يعرفونها من ملابسه .
ليتحققوا بذلك هلاكه ، ويعلموا قدرة الله عليه . ولهذا قال : " فاليوم
ننجيك ببدنك " أي مصاحباً درعك كالمعروفة بك : " لتكون " أي أنت آية " لمن
خلفك " أي من بني إسرائيل ، ودليلاً على قدرة الله الذي أهلكك ، ولهذا قرأ
بعض السلف : لتكون من خلفك آية ويحتمل أن يكون المراد : ننجيك بحسدك
مصاحباً درعك ، لتكون علامة لمن وراءك من بني إسرائيل على معرفتك وأنك
هلكت . . والله أعلم ، وقد كان هلاكه وجنوده في يوم عاشوراء .
كما قال الإمام البخاري في صحيحه : حدثنا شعبة عن أبي بشر ، عن سعيد بن
جبير ، عن ابن عباس قال : قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة واليهود
تصوم يوم عاشوراء ، فقال : ما هذا اليوم الذي تصومونه ؟ فقالوا : هذا يوم
ظهر فيه موسى على فرعون . قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه : " أنتم
أحق بموسى منهم فصوموا " .
وأصل هذا الحديث في الصحيحين وغيرهما . . والله أعلم .
وعنادهم ، متابعة لملكهم فرعون ، ومخالفة لنبي الله ورسوله وكليمه موسى بن
عمران عليه السلام ، أقام الله على أهل مصر الحجج العظيمة القاهرة ،
وأراهم من خوارق العادات ما بهر الأبصار وحير العقول ، وهم مع ذلك لا
يرعوون ولا ينتهون ، ولا ينزعون ولا يرجعون .
ولم يؤمن منهم إلا القليل . قيل ثلاثة : وهم إمرأة فرعون - ولا علم لأهل
الكتاب بخبرها - ومؤمن آل فرعون الذي تقدمت حكاية موعظته ومشورته وحجته
عليهم ، والرجل الناصح الذي جاء يسعى من أقصا المدينة ، فقال : " يا موسى
إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين " .
قاله ابن عباس فيما رواه ابن أبي حاتم عنه ومراده غير السحرة ، فإنهم كانوا من القبط .
وقيل بل آمن به طائفة من القبط من قوم فرعون ، والسحرة كلهم وجميع شعب بني
إسرائيل . ويدل على هذا قوله تعالى : " فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه
على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم وإن فرعون لعال في الأرض وإنه لمن
المسرفين " .
فالضمير في قوله : " إلا ذرية من قومه " عائد على فرعون لأن السياق يدل
عليه ، وقيل على موسى لقربه ، والأول أظهر كما هو مقرر في التفسير
وإيمانهم كان خفياً لمخالفتهم من فرعون وسطوته ، وجبروته وسلطته ، ومن
ملئهم أن ينموا عليهم إليه فيفتنهم عن دينهم .
قال الله تعالى مخبراً عن فرعون وكفى بالله شهيداً : " وإن فرعون لعال في
الأرض " أي جبار عنيد مشتغل بغير الحق ، " وإنه لمن المسرفين " أي في جميع
أموره وشئونه وأحواله ولكنه جرثومة قد حان انجعافها وثمرة خبيثة قد آن
قطافها ، ومنهجة ملعونة قد حتم إتلافها .
وعند ذلك قال موسى : " يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم
مسلمين * فقالوا على الله توكلنا ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين *
ونجنا برحمتك من القوم الكافرين " فأمرهم بالتوكل على الله والإستعانة به
، والإلتجاء إليه ، فأتمروا بذلك فجعل الله لهم مما كانوا فيه فرجاً
ومخرجاً .
" وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا واجعلوا بيوتكم قبلة وأقيموا الصلاة وبشر المؤمنين " .
أوحى الله تعالى إلى موسى وأخيه هارون عليهما السلام أن يتخذا لقومهما
بيوتاً مميزة فيها بينهم عن بيوت القبط ، ليكونوا على أهبة الرحيل إذا
أمروا به ، ليعرف بعضهم بيوت بعض .
وقوله : " واجعلوا بيوتكم قبلة " قيل مساجد ، وقيل معناه كثرة الصلاة فيها .
قال مجاهد وأبو مالك وإبراهيم النخعي والربيع والضحاك وزيد بن أسلم وابنه عبد الرحمن وغيرهم .
ومعناه على هذا : الإستعانة على ما هم فيه الضر والشدة والضيق بكثرة
الصلاة ، كما قال تعالى : " واستعينوا بالصبر والصلاة " وكان رسول الله
صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر صلي .
وقيل معناه : أنهم لم يكونوا حينئذ يقدرون على إظهار عبادتهم في مجتمعاتهم
ومعابدهم ، فأمروا أن يصلوا في بيوتهم ، عوضاً عما فاتهم من إظهار شعائر
الدين الحق في ذلك الزمان ، الذي اقتضى حالهم إخفاءه خوفاً من فرعون وملئه
، والمعنى الأول أقوى لقوله : " وبشر المؤمنين " وإن كان لا ينافي الثاني
أيضاً . . والله أعلم .
وقال سعيد بن جبير : " واجعلوا بيوتكم قبلة " أي متقابلة .
* * *
" وقال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا
ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا
حتى يروا العذاب الأليم * قال قد أجيبت دعوتكما فاستقيما ولا تتبعان سبيل
الذين لا يعلمون " .
هذه دعوة عظيمة دعا بها كليم الله موسى على عدو الله فرعون ، غضباً لله
عليه ، لتكبره عن اتباع الحق ، وصده عن سبيل الله ومعاندته وعتوه وتمرده ،
واستمراره على الباطل ، ومكابرته الحق الواضح الجلي الحسي والمعنوي ،
والبرهان القطعي ، فقال : " ربنا إنك آتيت فرعون وملأه " يعني قومه من
القبط ، ومن كان على ملته ودان بدينه " زينة وأموالا في الحياة الدنيا
ربنا ليضلوا عن سبيلك " أي وهذا يغتر به من يعظم أمر الدنيا . فيحسب
الجاهل أنهم على شيء ، لكن هذه الأموال وهذه الزينة ، من اللباس والمراكب
الحسنة الهنية ، والدور الأنيقة والقصور المبنية ، والمآكل الشهية
والمناظر البهية ، والملك العزيز والتمكين . والجاه العريض في الدنيا لا
الدين .
" ربنا اطمس على أموالهم " قال ابن عباس ومجاهد : أي أهلكها . وقال أبو
العالية والربيع بن أنس والضحاك : اجعلها حجارة منقوشة كهيئة ما كانت ،
وقال قتادة : بلغنا أن زروعهم صارت حجارة ، وقال محمد بن كعب : جعل سكرهم
حجارة ، وقال أيضاً : صارت أموالهم كلها حجارة ذكر ذلك لعمر بن عبد العزيز
، فقال عمر بن عبد العزيز لغلام له : قم ائتني بكيس ، فجاء بكيس ، فإذا
فيه حمص وبيض قد حول حجارة ! رواه ابن أبي حاتم .
وقوله : " واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم " قال ابن
عباس : أي اطبع عليها . وهذه دعوة غضب لله تعالى ولدينه ولبراهينه .
فاستجاب الله تعالى لها ، وحققها وتقبلها ، كما استجاب لنوح في قومه حيث
قال : " رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا * إنك إن تذرهم يضلوا
عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا " ولهذا قال تعالى مخاطباً لموسى حين دعا
على فرعون وملئه ، وأمن أخوه هارون على دعائه فنزل ذلك منزلة الداعي أيضاً
:" قال قد أجيبت دعوتكما فاستقيما ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون " .
قال المفسرون وغيرهم من أهل الكتاب : استأذن بنو إسرائيل فرعون في الخروج
إلى عيد لهم ، فأذن لهم وهو كاره ، ولكنهم تجهزوا للخروج وتأهبوا له ،
وإنما كان في نفس الأرض مكيدة بفرعون وجنوده ، ليتخلصوا منهم ويخرجوا عنهم
.
وأمرهم الله تعالى - فيما ذكره أهل الكتاب - أن يستعيروا حلياً منهم ،
فأعاروهم شيئاً كثيراً ، فخرجوا بليل فساروا مستمرين ذاهبين من فورهم ،
طالبين بلاد الشام ، فلما علم بذهابهم فرعون حنق عليهم كل الحنق ، واشتد
غضبه عليهم ، وشرع في استحثاث جيشه وجمع جنوده ليلحقهم ويمحقهم .
قال الله تعالى : " وأوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي إنكم متبعون * فأرسل
فرعون في المدائن حاشرين * إن هؤلاء لشرذمة قليلون * وإنهم لنا لغائظون *
وإنا لجميع حاذرون * فأخرجناهم من جنات وعيون * وكنوز ومقام كريم * كذلك
وأورثناها بني إسرائيل * فأتبعوهم مشرقين * فلما تراء الجمعان قال أصحاب
موسى إنا لمدركون * قال كلا إن معي ربي سيهدين * فأوحينا إلى موسى أن اضرب
بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم * وأزلفنا ثم الآخرين *
وأنجينا موسى ومن معه أجمعين * ثم أغرقنا الآخرين * إن في ذلك لآية وما
كان أكثرهم مؤمنين * وإن ربك لهو العزيز الرحيم " .
قال علماء التفسير : لما ركب فرعون في جنوده طالباً بني إسرائيل يقفو
أثرهم كان في جيش كثيف عرمرم ، حتى قيل كان في خيوله مائة ألف فحل أدهم ،
وكانت عدة جنود تزيد على ألف ألف وستمائة ألف ، فالله أعلم ، وقيل إن بني
إسرائيل كانوا نحواً من ستمائة ألف مقاتل غير الذرية . وكان بين خروجهم من
مصر صحبة موسى عليه السلام ودخولهم إليها صحبة أبيهم إسرائيل أربعمائة سنة
وستاً وعشرين سنة شمسية .
والمقصود أن فرعون لحقهم بالجنود ،فأدركهم عند شروق الشمس ، وتراءى
الجمعان ، ولم يبق ثم ريبولا لبس ، وعاين كل من الفريقين صاحبه وتحققه
ورآه ، ولم يبق إلا المقاتلة والمجادلة والمحاماة . فعندها قال أصحاب موسى
وهم خائفون : " إنا لمدركون " وذلك لأنهم اضطروا في طريقهم إلى البحر فليس
لهم طريق ولا محيد إلا سلوكه وخوضه ، وهذا ما لا يستطيعه أحد ولا يقدر
عليه ، والجبال عن يسرتهم وعن أيمانهم وهي شاهقة منيفة . وفرعون قد غالقهم
وواجههم ، وعاينوه في جنوده وجيوشه وعدده وعدده ، وهم منه في غاية الخوف
والذعر ، لما قاسوا في سلطانه من الإهانة والمكر .
فشكوا إلى نبي الله ما هم فيه مما قد شاهدوه وعاينوه . فقال لهم الرسول
الصادق المصدوق : " كلا إن معي ربي سيهدين " وكان في الساقة ، فتقدم إلى
المقدمة ، ونظر إلى البحر وهو يتلاطم بأمواجه ، ويتزايد زبد أجاجه ، وهو
يقول : هاهنا أمرت . ومعه أخوه هارون ، ويوشع بن نون ، وهو يومئذ من سادات
بني إسرائيل وعلمائهم وعبادهم الكبار ، وقد أوحي الله إليه وجعله نبياً
بعد موسى وهارون عليهما السلام ، كما سنذكره فيما بعد إن شاء الله ، ومعهم
أيضاً مؤمن آل فرعون ، وهم وقوف ، وبنو إسرائيل بكمالهم عليه عكوف . ويقال
إن مؤمن آل فرعون جعل يقتحم بفرسه مراراً في البحر ، هل يمكن سلوكه ؟ فلا
يمكن ، ويقول لموسى عليه السلام : يا نبي الله . . هاهنا أمرت ؟ فيقول :
نعم .
فلما تفاقم الأمر وضاق الحال واشتد الأمر ، واقترب فرعون وجنوده في جدهم
وحدهم وحديدهم ، وغضبهم وحنقهم ، وزاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر ،
عند ذلك أوحى الحليم العظيم القدير ، رب العرش الكريم ، إلى موسى الكليم :
" أن اضرب بعصاك البحر " فلما ضربه ، يقال إنه قال له : انفلق بإذن الله .
ويقال : إنه كناه بأبي خالد . . والله أعلم .
قال الله تعالى : " فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل
فرق كالطود العظيم " ويقال إنه انفلق اثني عشر طريقاً ، لكل سبط طريق
يسيرون فيه ، حتى قيل إنه صار فيه أيضاً شبابيك ليرى بعضهم بعضاً ! وفي
هذا نظر ، لأن الماء جرم شفاف إذا كان من ورائه ضياء حكاه .
وهكذا كان ماء البحر قائماً مثل الجبال ، مكفوفاً بالقدرة العظيمة الصادرة
من الذي يقول للشيء كن فيكون ، وأمر الله ريح الدبور فلفحت حال البحر
فأذهبته ، حتى صار يابساً لا يعلق في سنابك الخيول والدواب .
قال الله تعالى : " ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي فاضرب لهم طريقا
في البحر يبسا لا تخاف دركا ولا تخشى * فأتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من
اليم ما غشيهم * وأضل فرعون قومه وما هدى " .
والمقصود أنه لما آل أمر البحر إلى هذه الحال ، فبإذن الرب العظيم الشديد
المحال ، أمر موسى عليه السلام أن يجوزه ببني إسرائيل ، فانحدروا فيه
مسرعين مستبشرين مبادرين ، وقد شاهدوا من الأمر العظيم ما يحير الناظرين ،
ويهدي قلوب المؤمنين . فلما جاوزوه وجاوزوه وخرج آخرهم منه ، وانفصلوا عنه
، وكان ذلك عند قدوم أول جيش فرعون إليه ، ووفودهم عليه .
فأراد موسى عليه السلام أن يضرب البحر بعصاه ليرجع كما كان عليه . لئلا
يكون لفرعون وجنوده وصول إليه ، ولا سبيل عليه ، فأمره القدير ذو الجلال
أن يترك البحر على هذه الحال ، كما قال وهو الصادق في المقال : " ولقد
فتنا قبلهم قوم فرعون وجاءهم رسول كريم * أن أدوا إلي عباد الله إني لكم
رسول أمين * وأن لا تعلوا على الله إني آتيكم بسلطان مبين * وإني عذت بربي
وربكم أن ترجمون * وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون * فدعا ربه أن هؤلاء قوم
مجرمون * فأسر بعبادي ليلا إنكم متبعون * واترك البحر رهوا إنهم جند
مغرقون * كم تركوا من جنات وعيون * وزروع ومقام كريم * ونعمة كانوا فيها
فاكهين * كذلك وأورثناها قوما آخرين * فما بكت عليهم السماء والأرض وما
كانوا منظرين * ولقد نجينا بني إسرائيل من العذاب المهين * من فرعون إنه
كان عاليا من المسرفين * ولقد اخترناهم على علم على العالمين * وآتيناهم
من الآيات ما فيه بلاء مبين " .
فقوله تعالى : " واترك البحر رهوا " أي ساكناً على هيئته ، لا يغيره عن هذه الصفة .
قاله عبد الله بن عباس ومجاهد وعكرمة والربيع والضحاك وقتادة وكعب الأحبار وسماك بن حرب وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وغيرهم .
فلما تركه على هيئته وحالته وانتهى فرعون ، فرأى ما رأى ، وعاين ما عاين ،
هاله هذا المنظر العظيم ، وتحقق ما كان يتحققه قبل ذلك من أن هذا من فعل
رب العرش الكريم ، فأحجم ولم يتقدم ، وندم في نفسه على خروجه في طلبهم
والحالة هذه حيث لا ينفعه الندم ، لكنه أظهر لجنوده تجلداً وعاملهم معاملة
العدا ، وحملته النفس الكافرة والسجية الفاجرة على أن قال لمن استخفهم
فأطاعوه ، وعلى باطله تابعوه : انظروا كيف انحسر البحر لي لأدرك عبيدي
الآبقين من يدي ، الخارجين على طاعتي وبلدي ؟ وجعل يورى في نفسه أن يذهب
خلفهم ، ويرجو أن ينجو وهيهات ويقدم تارة ويحج تارات !
فذكروا أن جبريل عليه السلام تبدى في صورة فارس راكب على رمكة حائل فمر
بين يدي فحل فرعون لعنه الله ، فحمحم إليها وأقبل عليها ، وأسرع جبريل بين
يديه فاقتحم البحر ، واستبق الجواد وقد أجاد ، فبادر هذا وفرعون لا يملك
من نفسه ضراً ولا نفعاً ، فلما رأته الجنود قد سلك البحر اقتحموا وراءه
مسرعين ، فحصلوا في البحر أجمعين أكتعين أبصعين ، حتى هم أولهم بالخروج
منه ، فعند ذلك أمر الله تعالى كليمهه فيما أوحاه إليه أن يضرب بعصاه
البحر . فضربه فارتطم عليهم البحر كما كان ، فلم ينج منهم إنسان .
قال تعالى : " وأنجينا موسى ومن معه أجمعين * ثم أغرقنا الآخرين * إن في
ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين * وإن ربك لهو العزيز الرحيم " أي في
إنجائه أولياءه فلم يغرق منم أحد . وإغراقه أعداءه فلم يخلص منهم أحد ،
آيه عظيمة ، وبرهان قاطع على قدرته تعالى العظيمة ، وصدق رسوله فيما جاء
به عن ربه من الشريعة الكريمة ، ولمناهج المستقيمة .
وقال تعالى : " وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتبعهم فرعون وجنوده بغيا
وعدوا حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو
إسرائيل وأنا من المسلمين * آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين * فاليوم
ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون " .
يخبر تعالى عن كيفية غرق فرعون زعيم كفرة القبط ، وأنه لما جعلت الأمواج
تخفضه تارة وترفعه أخرى ، وبنو إسرائيل ينظرون إليه وإلى جنوده ، ماذا أحل
الله به وبهم من البأس العظيم والخطب الجسيم ، ليكون أقر لأعين بني
إسرائيل ، وأشفى لنفوسهم . فلما عاين فرعون الهلكة وأحيط به ، وباشر سكرات
الموت أناب حينئذ وتاب ، وآمن حين لا ينفع نفساً إيمانها ، كما قال تعالى
: " إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون * ولو جاءتهم كل آية حتى يروا
العذاب الأليم " .
وقال تعالى : " فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به
مشركين * فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في
عباده وخسر هنالك الكافرون " .
وهكذا دعا موسى على فرعون وملئه ، أن يطمس على أموالهم ، ويشدد على قلوبهم
فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم ، أي حين لا ينفعهم ذلك ، ويكون حسرة
عليهم . وقد قال تعالى لهما - أي لموسى وهارون - حين دعوا بهذا : " قد
أجيبت دعوتكما " فهذا من إجابة الله تعالى دعوة كليمه وأخيه هارون عليهما
السلام .
ومن ذلك الحديث الذي رواه الإمام أحمد : حدثنا سليمان بن حرب ، حدثنا حماد
بن سلمة ، عن علي بن زيد ، عن يوسف بن مهران ، عن ابن عباس قال : قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم : " لما قال فرعون " آمنت أنه لا إله إلا الذي
آمنت به بنو إسرائيل " قال لي جبريل : لو رأيتني وقد أخذت من حال البحر
فدسسته في فيه ، مخافة أن تناله الرحمة " !
ورواه الترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم عند هذه الآية من حديث حماد بن سلمة ، وقال الترمذي : حديث حسن .
وقال أبو داود الطيالسي : حدثنا شعبة عن عدي بن ثابت ، وعطاء بن السائب ،
عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" قال لي جبريل : لو رأيتني وأنا آخذ من حال البحر فأدسه في فم فرعون
مخافة أن تناله الرحمة " .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو خالد الأحمر ، عن
عمر بن عبد الله بن يعلى الثقفي . عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال :
لما أغرق الله فرعون أشار بأصبعه ورفع صوته : " آمنت أنه لا إله إلا الذي
آمنت به بنو إسرائيل " قال : فخاف جبريل أن تسبق رحمة الله فيه غضبه ،
فجعل يأخذ الحال بجناحيه ، فيضرب به وجهه فيرمسه . ورواه ابن جرير من حديث
أبي خالد به .
ورواه الترمذي وابن جرير من حديث شعبة ، وقال الترمذي : حسن غريب صحيح . وأشار ابن جرير في رواية إلى وقفه .
وقد رواه ابن جرير من طريق كثير بن زاذان وليس بمعروف ، وعن أبي حازم عن
أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قال لي جبريل عليه
السلام : يا محمد . . لو رأيتني وأنا أغطه وأدس من الحال في فيه ، مخافة
أن تدركه رحمة الله فيغفر له " يعنى فرعون .
وقد أرسله غير واحد من السلف كإبراهيم التيمي وقتادة وميمون بن مهران ،
ويقال إن الضحاك بن قيس خطب به الناس ، وفي بعض الروايات أن جبريل قال :
ما بغضت أحداً بغضي لفرعون حين قال : " أنا ربكم الأعلى " ولقد جعلت أدس
في فيه الطين حين قال ما قال .
وقوله تعالى : " آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين " استفهام إنكار ،
ونص على عدم قبوله تعالى منه ذلك ، لأنه - والله أعلم - لو رد إلى الدنيا
كما كان لعاد إلى ما كان عليه ، كما أخبر تعالى عن الكفار إذا عاينوا
النار وشاهدوها أنهم يقولون : " يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون
من المؤمنين " قال الله : " بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا
لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون " وقوله : " فاليوم ننجيك ببدنك لتكون
لمن خلفك آية " .
قال ابن عباس وغير واحد : شك بعض بني إسرائيل في موت فرعون ، حتى قال
بعضهم إنه لا يموت ، فأمر الله البحر فرفعه على مرتفع ، قيل على وجه الماء
، وقيل على نجوة من الأرض ، وعليه درعه التي يعرفونها من ملابسه .
ليتحققوا بذلك هلاكه ، ويعلموا قدرة الله عليه . ولهذا قال : " فاليوم
ننجيك ببدنك " أي مصاحباً درعك كالمعروفة بك : " لتكون " أي أنت آية " لمن
خلفك " أي من بني إسرائيل ، ودليلاً على قدرة الله الذي أهلكك ، ولهذا قرأ
بعض السلف : لتكون من خلفك آية ويحتمل أن يكون المراد : ننجيك بحسدك
مصاحباً درعك ، لتكون علامة لمن وراءك من بني إسرائيل على معرفتك وأنك
هلكت . . والله أعلم ، وقد كان هلاكه وجنوده في يوم عاشوراء .
كما قال الإمام البخاري في صحيحه : حدثنا شعبة عن أبي بشر ، عن سعيد بن
جبير ، عن ابن عباس قال : قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة واليهود
تصوم يوم عاشوراء ، فقال : ما هذا اليوم الذي تصومونه ؟ فقالوا : هذا يوم
ظهر فيه موسى على فرعون . قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه : " أنتم
أحق بموسى منهم فصوموا " .
وأصل هذا الحديث في الصحيحين وغيرهما . . والله أعلم .
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى